البركان

البركان 
تصاعدت الأبخرة من فوهة البركان الذى بث رماده الكثيف فى كل مكان ليغطى سطح الجزيرة بما فيها من شوارع ومنازل، السكان يغطون أنوفهم وأفواههم ليتقوا بها البخار البركانى وسائقو السيارات يستخدمون الأضواء الكاشفة فى منتصف النهار، المدارس مغلقة وسوق الجزيرة الأكبر مغلق !
رصدت أجهزة وهيئات علمية ان بركان الجزيرة سوف ينفجر، هرعت فرق البحث والعلماء ووكالات الأنباء من كل حدب وصوب لتصوير انفجار أكبر فوهة بركانية فى العالم، مساحة أربعة كيلو مترات سينبعث منها الجحيم المستعر لتغطى الحمم كل شبر فى الجزيرة ويحول سائل ماءها بخارا.
حطت فى مطار الجزيرة طائرة صغيرة توحى بأنها طائرة خاصة هبط منها فريق من الأجانب يتقدمهم رجل عليه سمت العلماء، استقبله مراسلو وكالات الأنباء فى باحة المطار وانهالت عليه الأسئلة من كل مكان عن البركان وحالته ، فأجاب قائلا :
- رصدت أجهزتنا الغليان تحت القشرة الأرضية فى اتجاهه إلى أعلى لذا فالبركان سينفجر حتما بعد ثلاثة أيام .
نظر إلى ساعته ثم استطرد قائلا :
- ثلاثة أيام و4 ساعات.
ساد الوجوم على الوجوه للحظات ثم انهالت الأسئلة مرة أخرى عن التفاصيل.
*  *  *
هدر محرك المروحية فوق البركان وذاك العالم معلق فى بابها على وجهه قناع الأكسجين وتحته بحيرة من الحمم البركانية تتوسطها نافورة كبيرة من الحمم، تأملها ثم رفع صوته مخاطبا قائد الطائرة :
- هل تستطيع أن تقترب أكثر؟
أجابه القائد محتدا :
- ياسيدى أنت لا تريد سلقنا أحياء !
- حسنا حسنا، يمكنك العودة الآن ولكن أريد الإلتفاف حول الجبل لأرى الجزيرة بطريقة أفضل.
الحقول تمتد فى الأفق تتوسطها البيوت، خالجه شعور بالحزن لعلمه أن كل هذا سيتحول إلى حطام، لفت انتباهه مشهد غير مألوف حيث رأى مجموعة من الناس متراصة فى صفوف عرضية يتقدمهم رجل واحد، لم تكن التفاصيل واضحة من هذا الإرتفاع فسأل القائد أن ينخفض قليلا ليقترب منهم، رآهم يرفعون أيديهم إلى السماء وسمع أصواتا مبهمة فسأل القائد :
- من هؤلاء؟ ومالذى يفعلون؟
أجابه قائلا :
- هؤلاء بعض سكان الجزيرة وهم يدعون ربهم ليحميهم من هذا البركان.
تسائل “شارل” :
- ألم يقم الجميع بإخلاء الجزيرة ؟
- نعم ياسيدى، ولكن هؤلاء نقلوا عائلاتهم من الجزيرة وبقوا هم ليدعوا ربهم.
- مسلمون ؟
فأومأ القائد برأسه إيجابا.
حك رأسه قليلا ثم قال :
- اهبط بالطائرة .
نزلت الطائرة على مسافة من مكان المصلين ثم هبط منها آمرا أحد الجنود :
- اذهب إليهم وقل لهم أنى أرغب فى مقابلة بعضهم.

بعد عدة دقائق عاد الجندى وخلفه إمامهم وبعض السكان فبادر الإمام قائلا بعربية مكسرة :
- السلام عليكم .
تبسم الإمام ضاحكا من قوله ثم رد :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بكم فى الجزيرة .
ترجم له القائد ماقال إلى الفرنسية، تبسم الإمام مرة أخرى ثم خاطبه بفرنسية سليمة :
- فرنسى أنت ؟
ملأت ملامح الإعجاب وجه الفرنسى ثم رفع حاجبه قائلا :
- نعم، أتجيد الفرنسية ؟
- نعم، أنت هنا من أجل البركان .. صحيح ؟
- نعم ولقد رأيتكم من الطائرة أثناء تفقدى البركان فجئت لأحذركم من البركان عليكم إخلاء المكان ، لافائدة مما تفعلون !
- ياسيدى إن الأمر كله بيد الله يفعل مايشاء بيده مقاليد السموات والأرض، إن شاء انفجر البركان ولن يستطيع أحد فى العالم أن يمنعه وإن لم يشأ لم ينفجر، وهذه أرضنا وديارنا وكل مانملك فبقينا ندعو الله عسى أن يكشف عنا البلاء .
- هذا انتحار، لافائدة !
لم يجب الإمام فقط تبسم. أشار الفرنسى بيده إليه قائلا :
- إفعلوا مابدا لكم وإن لم ينفجر هذا البركان دخلت فى دينكم .
أجاب الشيخ : “ربنا لاتجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم”
ذهب الفرنسى صوب الطائرة وأمر القائد بالمغادرة ورآهم أثناء تحليق الطائرة يعودون لنفس التشكيل ونفس الدعاء !
ساد الصمت أرجاء الجزيرة، الكل متأهب والعيون والعدسات والقلوب موجهة للفوهة العملاقة فى إنتظار الحدث الأكبر، والفرنسى ينقل عينيه بين قمة الجبل فى الطبيعة وبين صورتها المقربة على الشاشات وعقله ينقل الفكر بين هذا الإنجاز العظيم والحدث الكبير وبين تحديه لهؤلاء القوم، طال الصمت ومرت ساعة الصفر لتضيف صفرا آخر يبدأ منه الفرنسى حياته، لم ينفجر البركان فى الموعد المحدد وبدأت الهمهمات تسرى بين الصحفيين والعلماء، تعجب الفرنسى ثم أصدر أوامر لطاقمه :
- قد يتأخر الأمر قليلا، لا تحركوا شيئا من مكانه .
مرت ساعة واثنتان وثلاثة ولم يتغير المشهد ..
- حسنا سنبقى ثلاثة أيام أخرى وإن لم يحدث شىء سنغادر الجزيرة .
انقشعت الغيوم وبدت الشمس فى كبد السماء ترسل أشعتها على الجزيرة وهدأت الأبخرة المتصاعدة من البركان، حالة من الهدوء كأن الطبيعة تستريح من معركة حامية لم يقطعها إلا صوت المروحية تدور حول الفوهة للمرة الأخيرة ، وعلى متنها الفرنسى يتسائل :
- مالذى يحدث، مضى ثلاثة أيام ولم نر انفجارا ؟!
لم يجد أى إجابة لسؤاله فقط واجهته نظرات الجنود والطاقم، زفر ثم أمر القائد بالعودة .
فى طريق العودة رأى نفس المشهد، صفوف متراصة وأصوات تدعو، أمر القائد بالهبوط ثم ذهب للإمام وقال له :
- قضى الأمر فلم انتم هنا ؟
رد الشيخ كعادته متبسما :
- بقينا لنحمد الله على نعمته، أبعد أن أنعم علينا ربنا ننقلب على أعقابنا جاحدين ؟
- كنت وعدتك وعدا وفى نفسى كنت أكن خلافه، وماأبهرنى ثقتكم بربكم على قدر ماأبهرنى لجوءكم له فى الخير والشر، الآن حدثنى أكثر عن دينكم هذا ..
*  *  *
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“لا يرد القضاء إلا الدعاء”
صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
القصة مستوحاة من واقعة حقيقية