فطنه

فِطنة

اختفى الضجيج وخيم الصمت على أنحاء القاعة إثر بدء فعاليات مناقصة كبرى المشاريع الحكومية لهذا العام، شرع الجمع فى إتخاذ أماكنهم لمتابعة الحدث، من طرف القاعة ظهر رجلان يتقدمهما كهل مهيب الطلعة ذو لحية كثة، ارتفعت الرءوس إليه بمجرد دخوله فهو صاحب أكبر شركة إنشاءات عقارية فى الدولة، اتخذ مقعده بين الجلوس وبدأت عيناه تفحص المكان بهدوء، ثم بدأ المنظم فى قراءة الديباجة المعتادة مما دفع أحد الحضور ليهمس فى أذن مجاوره :
- صديقك العزيز قد حضر.
- مرحى، لا أدرى لم يأتى كل عام وهو يعلم بخسارته أمام شركتى مسبقا !
- لا تنكر انه أحق الناس بها ..
- ومن قال أن الأمور تسير هكذا هنا، لسنا فى المدينة الفاضلة ياعزيزى.
- لا أدرى كيف ترسى عليك المناقصة كل عام، مع يقينى أن عرضه وإمكاناته أفضل !
- بسيطة، بالمال ياعزيزى، تعلم أن كل شركة تقدم مظروفا مغلقا فيه العرض الخاص بها ولايتم فتح المظاريف إلا يوم المناقصة فقط، كل ماأفعله هو دفع مبلغ لتفتح المظاريف وينقل محتواها إلىَ قبل المناقصة فأقدم عرضا أقل فى السعر من أفضل مظروف.
- ولكن المظاريف لاتُعدل ولايمكن أن تقدم مظروفا جديدا، فكيف إذا ؟!
- ياسيدى الفساد هنا يسمح بأى شىء، مقابل مبلغ آخر تضع اللجنة على مظروفى ناقص 5% وهذا يعنى أن عرضى الجديد أقل من الموجود فى مظروفى بهذه النسبة، والسبب الرسمى هو إعادة دراسة الجدوى.
- يالك من شيطان، ولم لا يفعل أخينا هذا مثل ذلك ؟
- يدعى الفضيلة، دع لحيته تأتيه بالمناقصة ..
ويقهقه ضاحكا، فى نفس الوقت كان أحد الرجلين خلف الكهل وهو شاب فى مقتبل العشرين يهمس قائلا:
- يا أبى، كل عام تأتى هنا والنتيجة معروفة، فساد ورشاوى لاتنتهى ..
- يابنى هذا حقى !
- أعلم يا أبى وشركتنا أحق الشركات وعرضنا أفضل العروض فى الجودة والسعر ولكن لا فائدة !
- هذا العام الأمر مختلف.
- فى ماذا ؟
- سترى لكن تذكر أن هذا حقنا لم نعتدى على حق أحد ولم نظلم أحد.
- أنا لا أفهم شيئا، تكلم يا عمى !
التفت إليه قائلا :
- أبوك فعل شيئا قد لا تدركه الآن، استمع إلى كلامه وتذكر أنه نعم المال الصالح فى يد العبد الصالح.
- ولكن ….
قطع كلامه صوت المنظم يعلن عن بدء فتح المظاريف والإطلاع على العروض ثم بادر قائلا:
- أفضل العروض العرض المقدم من شركة الفائز ولكن شركة المستقبل مدون على مظروفها ناقص 5% بذلك يكون عرضها أفضل فى السعر من شركة الفائز وبالتالى …
قطع كلامه أحد أعضاء اللجنة الجالسين بجوراه ، فمال المنظم عليه للحظات بدا عليه فيهم الدهشة ثم التفكير، هز رأسه لمحدثه ثم رفعها قائلا:
- أخبرنى أعضاء اللجنة أن شركة الفائز موجود على مظروفها ناقص 10%  ، بذلك تكون صاحبت أفضل العروض المقدمة من حيث الجودة والسعر، لذا فقد قررت اللجنة قبول عرض شركة الفائز، شكرا للجميع.
ساد الهرج أنحاء القاعة وبدأ الجميع فى التحدث بصوت عال وهم ينظرون إلى الرجل الذى يداعب لحيته مبتسما وهو يتمتم ببضع كلمات، و أثناء مغادرته للمكان يميل على الشاب جواره قائلا :
 - الآن مرتاحين البال نملك مايكفى لبناء المستشفى الخيرى.